أحمد الواصل
«في بيروت ولدت قصيدةُ النثر، أطلقتها عمَّانية، اختارت أن تعيش في بيروت. بدأت بكتابتها منذ سنة 1946، ونشرت ديوانها الأول في بيروت سنة 1949، وسمَّت الديوان «النشيد التائه». لم يكن هذا الإنجاز سهلاً، كما كان إنجاز قصيدة التفعيلة في الشعر الحر، ولم يُدعَ هذا الإنجاز بهذه التسمية أي: قصيدة النثر، إلا في أوائل الستينيات». هذ الكلام لثريا ملحس (مجلة أفكار، 1998) تؤكد فيه أن سكَّ المصطلح تمَّ بعد نشر ديوانها بعقدَين.
«في بيروت ولدت قصيدةُ النثر، أطلقتها عمَّانية، اختارت أن تعيش في بيروت. بدأت بكتابتها منذ سنة 1946، ونشرت ديوانها الأول في بيروت سنة 1949، وسمَّت الديوان «النشيد التائه». لم يكن هذا الإنجاز سهلاً، كما كان إنجاز قصيدة التفعيلة في الشعر الحر، ولم يُدعَ هذا الإنجاز بهذه التسمية أي: قصيدة النثر، إلا في أوائل الستينيات». هذ الكلام لثريا ملحس (مجلة أفكار، 1998) تؤكد فيه أن سكَّ المصطلح تمَّ بعد نشر ديوانها بعقدَين.
والحقّ أن الشعر العربي، في القرن العشرين، مدين في تحوُّلين مهمَّين من تاريخه لامرأتَين: الأولى نازك الملائكة (1923 – 2007)، والثانية ثريا ملحس (1924).
بخصوص الملائكة فهي رغم اكتسابها الشهرة بعد ديوانها الأول «عاشقة الليل» (1947) لكونها مؤسِّسة لما أسمته «الشعر الحر» (شعر التفعيلة في ما بعد)، وقدَّمت له التبرير النقدي في مقدِّمة ديوانها «شظايا ورماد» (1949) بواقع عشر قصائد، ثم في ديوان «قرارة الموجة» (1957) بواقع تسع قصائد، إلا أن التحوُّل المهم في تجربتها لم يكن الشعر الحر، بل طريقة كتابة القصيدة في ديوانَيها الأولَين من حيث عدم مراعاة الوقفة العروضية، وإنما مراعاة المعنى وحدَه في الكتابة، كما حصل في قصائد من بحر الخفيف التقطها بلند الحيدري بصورة غير مؤثِّرة، لكنها وضحت أكثر في قصيدة «هذا هو اسمي» (1969) لأدونيس حيث اعتمد الطريقة ذاتها في الوزن العروضي وتوزيع الأسطر حسب المعنى وحده.
وبخصوص ملحس، فإضافة إلى أنها مؤرِّخة أدبية وأستاذة جامعية، إذ قدَّمت أول أعمالها «النشيد التائه» (1949) ضمن تحوُّلات ما اصطلح على تسميته الكاتب والمؤرخ الفذ جرجي زيدان «الشعر المنثور» في مقالة نُشرت في مجلة «الهلال» سنة 1905، إلا أنها لم تتورَّط في حرب المسمَّيات بين نازك الملائكة في كتابها «قضايا الشعر المعاصر» (1962) إضافة إلى مقدِّمتَي ديوانَيها «شظايا ورماد» و«شجرة القمر» من جهة أولى، وبين مجلة «شعر» ممثَّلة بجبرا إبراهيم جبرا الذي ناظرها في مقالة من كتاب «الرحلة الثامنة» (1967) ويوسف الخال في كتابه «الحداثة في الشعر» (1978) من جهة ثانية.
لقد خرجت ثريا ملحس من قلب ما يمكن أن نُطلق عليه اسم «البُرهة الجبرانية»، أي صورة الشعر المنثور الأولى لدى جبران خليل جبران ومي زيادة وأمين الريحاني، واستطاعت أن تأخذ فرصة حضورها الرمزي بنشر ديوانها الأول بين كوكبة شعراء مجلة «الأديب» (1945 - 1982)، إلا أنها سبقت كل من الشعراء: المصري حسين عفيف (1902 – 1979)، واللبناني فؤاد سليمان (1911 – 1951)، والسعودي محمد حسن عوَّاد (1902 – 1980) الذين تطلَّعوا إلى إنتاج المزيد من الشعر المنثور، من دون تجاهل تجاربهم رغم تباين نِسَبها الكمّية في الشعر المرسل (التناظري المتعدِّد القوافي).
لكن ثريا ملحس تصطفُّ مع تجربة جيل مجهول يُشكِّل - على تباعد أماكن أبنائه - تيَّاراً مهماً في تاريخ الشعر المنثور (أو قصيدة النثر لاحقاً) يسبق ضجيج شعراء مجلة «شعر» وخصومها، وتُعدُّ ملحس رائدتهم نشراً: حسين مردان (1927 – 1972) في أول دواوينه من الشعر المنثور «صور مرعبة» (1951)، وتوفيق صايغ (1923 - 1971) في أول ديوان له «30 قصيدة» (1954)، وسليمان عوّاد (1922 - 1984) في أول ديوان له «سمرنار» (1957)، وجبرا إبراهيم جبرا (1920 - 1994) في أول ديوان له «تمّوز في المدينة» (1959).
«النشيد التائه»
والآن سأدع السيّدة ثريا ملحس، المولودة لأب فلسطيني من نابلس وأم ذات أصول شركسية، تتحدَّث: «كنت الثالثة من الأحد عشر، وفي السادسة من عمري التحقتُ بالمدرسة الابتدائية الحكومية للبنات، وقد استأجرتها الحكومة من أبي عبد الفتاح ملحس، والمدرسة الابتدائية كانت آخر مرحلة لتعليم الإناث، وتخرَّجت منها بعد ست سنوات سنة 1938، وفي السنة الأخيرة من المرحلة الابتدائية، وكنت دائماً الأولى، رسبتُ في درس الإنشاء! فأصبحت في المرتبة الثانية فبكيت كثيراً وهبطت الوادي لاهثةً باكية لأخبر أبي... وسبب ذلك أن معلمتنا جامدة العينَين قاسية الملامح كانت تقرأ علينا نصاً وتطلب منا أن نكتبه حرفياً بلا زيادة أو نقصان! فكنت أحيد عنه وأكتب ما أشاء! وكنت لا أحب هذا الدرس لأنه كان يُقيِّدني» (وليد سليمان، 2009).
والآن سأدع السيّدة ثريا ملحس، المولودة لأب فلسطيني من نابلس وأم ذات أصول شركسية، تتحدَّث: «كنت الثالثة من الأحد عشر، وفي السادسة من عمري التحقتُ بالمدرسة الابتدائية الحكومية للبنات، وقد استأجرتها الحكومة من أبي عبد الفتاح ملحس، والمدرسة الابتدائية كانت آخر مرحلة لتعليم الإناث، وتخرَّجت منها بعد ست سنوات سنة 1938، وفي السنة الأخيرة من المرحلة الابتدائية، وكنت دائماً الأولى، رسبتُ في درس الإنشاء! فأصبحت في المرتبة الثانية فبكيت كثيراً وهبطت الوادي لاهثةً باكية لأخبر أبي... وسبب ذلك أن معلمتنا جامدة العينَين قاسية الملامح كانت تقرأ علينا نصاً وتطلب منا أن نكتبه حرفياً بلا زيادة أو نقصان! فكنت أحيد عنه وأكتب ما أشاء! وكنت لا أحب هذا الدرس لأنه كان يُقيِّدني» (وليد سليمان، 2009).
وتتوالى مراحل الدراسة للطالبة ثريا ملحس في المدرسة الإنكليزية التبشيرية المتوسطة، ثم الكلية الإنكليزية الثانوية للبنات في القدس، ثم الجامعة الأميركية المتوسطة للبنات في بيروت حيث تخرَّجت سنة 1945 بدرجة أولى شرف: «خرجتُ من عمَّان في سن الخامسة عشرة إلى القدس. لم تكن عمَّان سوى قرية أهم ما فيها الوادي وسَيْله». (مواجهات مع الصحافة، ثريا ملحس، طبعة خاصة، 2006).
وفي ذلك الزمن كان يُدرِّس فنَّ الكتابة الشاعر والكاتب رشدي المعلوف (والد الروائي أمين معلوف)، وذات مرَّة طلب كتابةً حرَّة من الطالبات، وفوجئت ثريا به في اليوم التالي يتحدَّث عن موهبتها الشعرية قائلاً لها: «حافظي عليها وغذِّيها بالدربة والمطالعة»، ثم وضع علامةA+ .
نالت ملحس الإجازة في الأدب واللغة العربية (الجامعة الأميركية، 1947)، وقدَّمت رسالة ماجستير عن «أدب الروح عند العرب» (الجامعة الأميركية، 1951)، وأنجزت رسالة التحضير للدكتوراه «حروف المعاني: حرف الباء» (جامعة لندن، 1962 - 1963)، ثم رسالة دكتوراه في الأدب العربي عن «كشاجم: عصره، سيرته وآثاره» (الجامعة اليسوعية، 1981).
وعملت أستاذة للأدب العربي في كلية بيروت الجامعية اللبنانية (1952 - 1972) وفي الجامعة اللبنانية (1974 - 1995)، وبعد نهاية عملها الأكاديمي انتقلت بشكل نهائي إلى عمَّان عام 2002.
وبالعودة إلى بدايات التجربة الشعرية لثريا ملحس نقرأ قصيدة «تمرُّد» كنموذج لهذه الشاعرة الثائرة: «سأضحك ضحكات عالية/ تملأ الفضاء العاري/ وتخترق الغيوم/ تكرّ رعود الغد/ سأضحك... ومَن يمنعني!/ أحرقةُ الشمس الضئيلة؟/ أضوضاء الناس الخافتة؟/ هل في الشمس قوّة/ تتحدَّى قوّتي؟/ هل في الناس قيدٌ/ يتحدَّى حرّيتي؟/ إنّ قهقهاتي/ لأقوى من الشمس/ وصداها/ لأصعقُ من نفخ الصُّوْر!».
تنوَّعت حالات التلقي لتجربة ملحس الشعرية، ففي حين كتب عنها الناقد موسى سليمان في كتابه «خواطر في الأدب» (اتحاد الكتَّاب، 1969) قائلاً: «قريباً سيقف أبناؤنا عند «النشيد التائه» وقفةَ الرهبة والخشوع. وغداً عندما تعود عذارى الأدب والفن من بلاد عبقر، تحمل مشالح الخز والدمقس والأرجوان وعبق الندِّ والبخور والعنبر، هدية الآلهة إلى المهلمات في دنيا العالم العربي»... نجد أن الناقد الماركسي حسين مروة هاجم ديوانها الثاني «قربان» (1952)، غير أن الناقدة سلوى روضة ردَّت عليه قائلة: «إن كان في الأدب العربي المعاصر حركات تجديدية فإن ثريا ملحس تُعدُّ في الطليعة» (جريدة «الحياة»، 1952). وكتب الناقد درويش الجميل محتفياً: «قرأت منذ أيام للشاعرة الأردنية ثريا ملحس ديوانها الجديد «قربان»، فأحسست أنني أمام اتجاه جديد، طال انتظار الشعر له. قوَّة جديدة تدخل مسرح الشعر، وليس في قلبها ذلك التقديس السخيف للألوان القديمة الصيغ المتعارفة، بل انطلاقة حرٍّ سعيد» (جريدة «البلاغ»، 1952).
وتتحدَّث ملحس في أحد حواراتها عن مسألة تلقي دواوينها الشعرية عند النقاد والقراء: «كأنهم اعتادوا على استمراري في المسار، وعنادي في النشر!» (مواجهات مع الصحافة، 2006).
ديوانها الثالث «مساجين الزمن» (prisoners of time) نشرته باللغة الإنكليزية العام 1956، وقد كتب عنه أنيس صايغ، معيداً ترجمة عنوانه على طريقته: «واليوم يأتي ديوان «أسرى الزمان» مظهراً جديداً للكفاح الأدبي، الذي نخوضه ديواناً لغته الإنكليزية، ناظمته فتاة. وشعر صراحة وانطلاق وحرِّية وكبرياء ووجدان. شعر فكر يمثِّل نهضة جديدة تقوم بها نخبة من المواطنين» (جريدة «النهار»، 1957).
كما أن شاعرتنا نشرت تجربة شعرية جديدة يتحاور فيها الفن التشكيلي والشعر بعنوان «عشر نفوس قلقة» (1955)، وعُدَّت تجربة طليعية، لكنها ستُكرِّرها لاحقاً عبر محاورة شعرية - موسيقية في كتاب «عشر مَلْحنات» (1962).
صدور ديوانها الرابع «محاجر في الكهوف» (1967) لاقى أصداء واسعة لدى الكثيرين، فكتبت عنه الروائية إميلي نصر الله قائلة: «الشاعرة تحس نفسها مزروعة في كثير من المخلوقات. ممتدَّة في أرجاء المعمورة» (مجلة «الصيّاد»، 1968).
وبعث إليها الناقد وديع فلسطين برسالة يقول فيها: «ثريا ملحس مدرسة مستقلة في أدبنا المعاصر» (القاهرة، 1968).
وكذلك فعل ميخائيل نعيمة في رسالة رأى فيها أن الديوان تجسيد لـ«شعور بمأساة فلسطين، ومأساة المرأة العربية، ثم مأساة الإنسان أينما كان» (بسكنت - لبنان، 1968).
أما الناقد أنيس المقدسي الذي سبق أن امتدحها، فقد وقف منها موقفاً مضاداً عندما نشرت هذا الديوان كونها عادت إلى توظيف شعر التفعيلة في كتابة شعرية تطلَّبت ذلك، وهو ما أغضب جماعة مجلة «شعر» على حد قولها، فامتنعت عن نشر قصيدة لها.
وكتب الناقد اللبناني إيلي ناضر كتابة قدحيَّة عنه: «فبالأمس أحببتُ شعرك لأنه كان ينطلق من أغوار ذاتك دونما قيود أو مجاملة. يطير على سجيَّته، غير مبالٍ بالروتينية الموروثة! واليوم أخجل أن أقول قرفتُ من القوافي التي تتسلَّط على قصائدك كسلطان يشهر السوط في وجه عبيده» (جريدة «الجمهورية»، 1968).
وبسبب انحيازها القومي العربي، دون ارتباطها بحزب أو حركة أو جماعة سياسية، واجهت ثريا ملحس في ذلك العام (1967) موقفاً عدائياً من تيَّار الأقلمة اللبنانية في الجامعة الأميركية حيث أصدر جهازُها الإداري قرارَ فصلها، لكنها ما لبثت أن عادت إلى الجامعة بقرار المحكمة، قبل أن يتجدَّد الفصل عام 1972 عبر نقض الحكم، فغادرتها إلى الجامعة اللبنانية.
ذكرت ثريا ملحس، في أكثر من حوار، أنها بقدر تأثُّرها بشعراء العربية الكبار: المتنبّي، المعرّي، وابن الفارض وكشاجم، تأثَّرت بشعراء المهجر الأميركي، وتابعت تجربة تطوير الشعر العربي، حيث تبادلت كتابة المقالات مع أنسي الحاج في جريدة «النهار»، مثمِّنةً تنظيره لقصيدة النثر في ديوانه «لن» (1960)، ناظرةً إلى أدونيس كمعادل شعري في تجربة الكتابة بين التفعيلة وقصيدة النثر.
في رسالتها للدكتوراه، والتي طالت لعقد كامل، تتبَّعت ملحس حياةَ الشاعر كشاجم لتفكَّ سرَّ اسمه المكوِّن من المواهب التي برع فيها: الكاف - كاتب، الشين - شاعر، الألف - أديب، والجيم - جدلي، والميم - موسيقي. وقد تمكَّنت من وضع 1700 صفحة عن هذه الشخصية المجهولة.
شرط العاطفة
اليوم، تعيش ثريا ملحس في عمَّان، ترقب تغيُّر المدينة مثلما رصدها عبد الرحمن منيف. تنظر إلى سنوات حياتها في القدس وبيروت ولندن، وترتِّب نصوصها الشعرية التي كتبتها بين أواسط الثمانينيات ومنتصف التسعينيات، وقد أصدرت العام الفائت المجلد الأول من أعمال الشعرية.
في كتابها «نسمات وأعاصير في الشعر النسائي العربي المعاصر» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1980) قالت الناقدة اللبنانية روز غريب عن تجربة ثريا ملحس: «مذهبها في الشعر منسجم مع موقفها الثوري من القيود والسدود. الشعر في رأيها فوران عاطفي. غليان في الصدر. ثورة في الفكر. (...) فالشعر يستطيع أن يكون حراً منثوراً إذا عبَّر عن زخم العاطفة وتدفُّقها. وكان موجزاً متوتراً شبيهاً بوضمات الوحي. فيه تصوير وبيان وتقطيع وموسيقى لفظية تعوِّضه من الوزن والقافية. لذلك نراها تُنوِّع شعرها بين منثور ومنظوم، يُراعي حركة النفس، وحاجتها إلى التبديل».
وبعد تكريمها في «بيت تايكي» سنة 2006، رأى الناقد السوري صبحي حديدي في مقالة بعنوان «ثريا ملحس وريادة قصيدة النثر: ظاهر الشكل وباطن المضمون» أن «جزءاً غير قليل من حركيَّة الحداثة في مطالع وأواسط القرن العشرين اعتمد على إعادة كتابة صورة المرأة، بقلم المرأة على وجه الخصوص، وفي سياقات إعادة إدراج نصِّها في قلب حروب الحداثة. ولقد حدث مراراً أن المرأة الكاتبة خاضت معارك مزدوجة الطابع: حول حيازة الحرِّيات المدنيَّة والحقوق الإنسانية للمرأة بوصفها مواطنة مشاركة في حياة المجتمع، وحول واجب المساهمة النشطة في تطوير الأشكال والمضامين وتنشيط روحية الحداثة إجمالاً. وهذا هو جوهر الموقع الذي ينبغي أن تشغله ثريا ملحس، إذا شاء النقد العربي تصحيح ما لحق بهذه المبدعة الكبيرة من إجحاف بالغ».
«الغاوون»، العدد 41، 10 آب 2011
موقع الغاوون :http://www.alghawoon.com/mag/art.php?id=961
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق