وداعا يا شيخ القراء وإلى اللقاء في جنة عرضها الأرض والسماء
بقلم الشيخ زياد زامل أبو مخ
بقلم الشيخ زياد زامل أبو مخ
رحل عنا شيخ جليل، علمه طبق الآفاق، واليه اشرأبت الأعناق، حبا وثناء وصدقا ووفاء لسيرته المترعة بفضائل الأعمال وعظيم الخصال ... إنه المرحوم الشيخ محمد سعيد ملحس، الذي أجرى الله تعالى على يديه نعمة تدريس أحكام تلاوة القرآن في مختلف البلدان، وكان نصيب مدينة (باقة الغربية) النصيب الوافر، فقد نالت من وابل فضله، ما جعل أبناءها يظاهرونه على مودة وتقدير ويحفظون له قدره ومنزلته، ففي العام 1975، أقيم ( المعهد الديني الإسلامي )، الذي أشرف عليه المرحوم الشيخ زامل أبو مخ ورعاه المرحوم الشيخ ياسين القواسمي، شيخ الطريقة الخلوتية، الذي دعا المرحوم الشيخ محمد سعيد ملحس، لتدريس أحكام التلاوة والتجويد، فهو أول طارق علم التلاوة والتجويد في المجتمع المسلم في البلاد، فله القدح المعلى في الفضل في نشر هذا العلم، واستمر على هذا النحو يخرج الأجيال تلو الأجيال على اختلاف الأعمار، ذكورا واناثا، حتى العام 1998، منها أربع سنوات في كلية الشريعة والدراسات الاسلامية، ومنها في المسجد القديم، لذا نال من ثناء الناس ما نال، والثناء ينبئ عن حب صادق، فاضت به حنايا القلوب وتناثرت على أرجاء النفوس، وهكذا أنشأ أجيالا أولياء لكتاب الله تعالى ونصراء لأحكامه، نشروا لواء علمه وحملوا فواضل خلقه وهم يعرفون الناس بأنفسهم على أنهم الرصيد الذي استخرجوه من جراب علم شيخهم الذي آتاه الله بصيرة، أمضى بنورها سنين طوال، جعلته معلما للقرآن ومرجعا لأحكامه، وقد نجح في استنبات طلبة حملوا علمه، تراهم يتسابقون إلى النسبة إليه بالتلمذة الوفية وهم مبثوثون في مراكز التحفيظ وتعليم أحكام التلاوة والتجويد في شتى البلاد ومنهم في باقة الغربية من يقومون على تدريس أحكام التلاوة والتجويد، فجزاهم الله خير الجزاء وثقل الله موازينهم بالحسنات والقربات.
كان المرحوم الشيخ محمد سعيد ملحس، تجمعه مع والدي الشيخ زامل أبو مخ – رحمه الله – صحبة صادقة وأخوة عجيبة، إذ كنت ترى فيهما صورة الأسوة الحسنة والأمانة لهذا الدين العظيم والإخلاص في خدمة رسالة الإسلام ونفع المسلمين، تحابا وتواصلا على سماط خلق واحد، لما أمتعهما الله من إخلاص ودأب ونشاط، ترى أثر ذلك في ذكرهما على الألسن، وحياتهما الواصلة بالأجيال المتعاقبة.
لم يقف الأمر عند ذكر المرحوم، الشيخ محمد سعيد ملحس، على أنه رائد التأصيل لعلم أحكام التلاوة والتجويد في البلاد، وعلى أنه يجاري في إتقان مخارج الحروف، شيخ المقارئ المصرية، المرحوم الشيخ محمود الحصري، بل يذكر بما امتن الله عليه من نعمة الخلق الفاضل، فقد أشربت نفسه خلق القرآن، فليس يغني من الحق شيئا أن نقول، إن تلقي الطالب عنه علم الأحكام كان له بالغ الأثر في اكتساب ما كان يجود به الشيخ من الأدب والسلوك، بما لا سبيل إليه إلا بالتلقي والاكتساب المباشر، فاستجلاب حب الناس له ،كان سببه ما عليه من أخلاق حميدة، ومن أبرز ما كان عليه: حرصه على تطبيق السنة النبوية واستيعاب الخلافات الفقهية بقلب كبير، دون أن ينثني عن لفت نظر من خالف السنة في صلاته وسلوكه ولكن بأدب جم وبأسلوب سائغ منقطع النظير.
نذكره على أنه الذاكر المستغفر، يحافظ على ورد يلازمه وأدعية يرددها.
نذكره بالابتسامة المرتسمة على محياه، وقد ازداد بها مهابة وهيبة وقناعة بأن البشاشة (أسلوب دعوة) وأنها علامة الثقة بالله وحسن الظن به ،تزيد المؤمن استبشارا وإقبالا على الله تعالى.
نذكره بمثابرته وصدق عزيمته، فكان سلوكه الدائم في كل يوم جمعة هو أداء صلاة الصبح في المسجد الحنبلي في نابلس – إماما - ، ثم التوجه مباشرة إلى التدريس في دار القرآن الكريم في المعهد الديني الإسلامي في باقة الغربية، مدة ثلاث وعشرين عاما .
نذكره بصدقه مع الله وعلامات صدقة كانت بادية على أقواله وسلوكه وشدة التزامه وقلبه النابض بحب للناس والخير لهم.
إن سيرة المرحوم، الشيخ محمد سعيد ملحس، تحتاج إلى جهد كبير لتصوير حياته المفعمة بخدمة القرآن العظيم وتحتاج إلى إبراز المواقف والمشاهد التي عاشها طيلة حياة زكاها الله تعالى وباركها، فمعرفة الرجال الربانيين الذين لهم قدم صدق عند ربهم، يحتاج إلى دراية ،نضجت على وقود عاطفة صادقة، تذكي شعلة الاخلاص لله في سرد سيرة رجل حباه الله واختاره ليكون قدوة للناس في حياته وبعد مماته في الاقبال على القرآن الكريم بكل كيانه، وتعهد قلبه الرقيق بغذاء المراقبة والذكر وقراءة القرآن وتعليم أحكامه.
إن عزاءنا برحيل شيخنا، الشيخ محمد سعيد ملحس، ما خلفه من علم وسلوك، نستشعره ونحياه، وإني أناشد أهلي في باقة الغربية وغيرهم من المسلمين في جميع البلاد، أن يكونوا للمرحوم، الشيخ محمد سعيد ملحس، أوفياء، بحمل غيرته على كتاب الله تعالى - قراءة وفهما واتقانا لأحكامه وتطبيقا لقواعده وتعليمه الناس - وعزاؤنا أيضا ما خلفه من أبناء بررة اقتفوا أثره ونهجوا منهجه، فالله يحميهم ووالدتهم، ويقيهم شر الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم اجعل القرآن الكريم جليس المرحوم في قبره وشفيعا له يوم القيامة ...آمين.
تلفزيون شوف :
الشيخ ملحس قارئ فلسطين الأكبر
بقلم محمود السعدي
مع وفاة الشيخ محمد سعيد ملحس عن 93 عاماً، يوم 26 أغسطس/ آب الماضي، في مدينة نابلس، شمال الضفة الغربية، افتقدت فلسطين أحد أهم علماء أحكام تجويد القرآن الكريم في عصرها الحديث. فالشيخ الراحل يعود إليه الفضل في جمع أول كتاب في علم التجويد في فلسطين، بطريقة مبسّطة تلائم العصر.
في مطلع خمسينيات القرن الماضي، بدأ الشيخ ملحس نشر وتعليم أحكام تجويد القرآن الكريم تطوعاً. واختص في رواية حفص عن عاصم (من القراءات العشر للقرآن المتفق عليها كصحيحة) فقط، بشقيها النظري والعملي، بالتزامن مع إطلاق الطبعة الأولى من كتابه "أحكام تجويد القرآن الكريم"، ضمن ما فهمه من علوم القرآن الكريم من شيوخه، وما قرأه عن علم التجويد.
الكتاب السهل في أسلوبه، لقي مديحاً من عدة مقرئين في العالم العربي، من بينهم الشيخ محمود الحصري. وقد وصل عدد طبعات هذا الكتاب إلى 18، واعتمد مرجعاً أساسياً ومنهاجاً للتدريس في فلسطين وخارجها، وكذلك منهاجاً للتدريس في امتحان التجويد المعتمد من قبل وزارة الأوقاف في فلسطين طوال عقود.
درّس الشيخ ملحس أحكام التجويد في عدة محافظات في الضفة الغربية المحتلة، وشجع على إجراء دورات لتعليم الأحكام في جانبيها النظري والعملي، وشجع كذلك على إجراء امتحان والحصول على شهادة خاصة لمن يجتاز الامتحان. وتبنت الفكرة وزارة الأوقاف، وما زال يُعمل بها حتى اليوم في الأراضي الفلسطينية، بحسب ابنه البكر أسامة ملحس في حديثه إلى "العربي الجديد".
حينما بدأ الشيخ ملحس في تلقّي أحكام التجويد على أيدي شيوخ عصره في نابلس، كان متميزاً بين أقرانه، يبحث ويناقش في مسائل التجويد، ويختلف مع شيوخه ويجتهد ذاتياً على الاستزادة في هذا العلم.
الشيخ المسن بقي كتلة من النشاط حتى في سنواته الأخيرة من أجل خدمة القرآن الكريم. أنشأ عام 1998 إذاعة للقرآن الكريم تبث من مدينة نابلس، ووصل بثها إلى كل الأراضي الفلسطينية والأردن وسورية ولبنان. يعمل في الإذاعة تطوعاً أبناؤه الثلاثة، وتموّل من الإعلانات. تبث عبر الإذاعة تلاوات القرآن الكريم للكثير من القارئين على مستوى العالم، وبرامج دينية أخرى.
تميز الشيخ ملحس في كونه شديد الحياء والتواضع بشهادة الجميع. وكان حساساً في التعامل مع الآخرين، صاحب صبر على تلاميذه. تتلمذ على يديه الكثير من الفلسطينيين من مختلف الأعمار، من أبرزهم: النائب في البرلمان الأردني عبد المنعم أبو زنط، والمحاضر في جامعة النجاح محمد الصليبي، والمحاضر في الجامعة الأردنية صلاح الخالدي، والنائب في المجلس التشريعي الفلسطيني حامد البيتاوي، وغيرهم كثيرون.
أحيا الشيخ أبو أسامة سنّة تعليم التجويد في نفوس الفلسطينيين مع الطبعة الأولى من كتابه مطلع خمسينيات القرن الماضي. وأطلق وزير الأوقاف الفلسطيني يوسف جمعة سلامة، قبل 20 عاماً على الشيخ ملحس، لقب "شيخ قراء شمال فلسطين".
جرت ترقية ملحس إلى مدير عام ومراقب لدور القرآن وتعليم التجويد في وزارة الأوقاف الفلسطينية. وكان يدرّس التجويد في عدة مساجد بمدينة نابلس كذلك، بالإضافة إلى عمله إماماً لأحد مساجد المدينة.
تمكن الشيخ ملحس من التدريس في عدد من المعاهد الإسلامية. لكنّ جامعة النجاح في نابلس رفضت طلب بعض تلامذته للتدريس فيها بحجة عدم حصوله على شهادة جامعية أو شهادة ثانوية عامة، بحسب المحاضر في كلية الشريعة بالجامعة محمد الصليبي، وهو الذي تتلمذ على يديه.
يقول الصليبي لـ"العربي الجديد": "منذ صغري في ستينيات القرن الماضي، ترددت على الشيخ في مسجد التينة في نابلس، من أجل تعلم أحكام التجويد. لم يكن علم التجويد منتشراً في فلسطين مثل هذه الأيام، وكانت قلة قليلة مهتمة به". يشدد الصليبي على أنّ الشيخ ملحس نقل علم التجويد والاهتمام به نقلة نوعية في فلسطين بعد عام 1967، فهو شيخ القراء في شمال ووسط الضفة الغربية، وقد بوّب علم التجويد بطريقة مبسطة يستطيع الطالب والمعلم فهمها.
ولد الشيخ محمد سعيد ملحس في مدينة نابلس عام 1923 لوالدين نابلسيين متديّنين. درس حتى الصف الرابع الأساسي في مدينة حيفا قبل احتلال الصهاينة لها. هناك كان أشقاؤه يعملون في التجارة بعد وفاة والدهم، وتنقلوا ما بين حيفا ونابلس. عاش يتيم الأب منذ كان في الثالثة، فأشرفت على رعايته والدته وشقيقه الأكبر. عام 1959، تزوج الشيخ من السيدة فاطمة فارس القدومي من مدينة نابلس (عمرها الآن 74 عاماً) وأنجب منها ثلاثة أبناء ذكور وبنتين.
العربي الجديد :
goo.gl/FX6Q2r
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق