تهتم هذه المدونة وتعنى بأنساب وتاريخ وأعراف وتقاليد وأخبار وأعلام وشؤون قبائل المساعيد

السبت، أكتوبر 01، 2016

إعدام بالمرَ بطولة مجهولة لأهلنا بسيناء فى القرن التاسع عشر ، بقلم ماجد محمد فتحى


 من الحوادث المجهولة في تاريخ الثورة العرابية والتي لم تنل القدر اللائق بها في دراسات الباحثين ، حادثة مصرع المستشرق البريطاني « إدوارد هنري بالمر» على يد بدو سيناء في جبل الطور عام 1882. و هي قضية تشابكت فيها خيوط الاستشراق و الاستعمار وعقلية التجسس البريطانية و الوطنية المصرية ، وأخيرا فهي صفحة مجهولة من بطولات أبناء سيناء في القرن التاسع عشر .

كان قيام حركة عرابي ضد القوات البريطانية التي طالبها الخديو توفيق بالتدخل لحماية عرشه من تطفل «الفلاحين» على شئون الحكم، بمثابة فرصة لبريطانيا بالتدخل السافر فى شئون مصر بحجة حماية الخديوي. وكان التكتيك البريطاني يسير على قدم و ساق لاحتلال مصر ، ورأى البريطانيون الفرصة سانحة لهم بعد مذبحة المكار و المالطي بالإسكندرية في 11 يونيو عام 1882 حتى يتسنى لهم الدخول بحجة حماية الرعايا الأجانب في مصر وإعادة الاستقرار لها . في ذلك الوقت في لندن كانت الأدميرالية البريطانية تريد فصل سيناء عن مصر ، إذ كانت قد رسمت في بداية ذلك العام الخطة لمهاجمة مصر عن طريق قناة السويس ، وقررت في منتصف يونيو تمهيد الطريق لذلك في حينه بتقديم الرشاوى على مجال واسع المدى بين قبائل البدو في الاسماعيلية و شرق القناة ، و كانت للرشوة أثر فعال في النفوس الضعيفة .
‎في شهر يونيو، أرسلت وزارة الحربية البريطانية الكابتن جيل إلى أحد المستشرقين البريطانيين بلندن، واسمه «إدوارد هنري بالمر». كان بالمر هذا مستشرقاً يتقن العربية و الفارسية والأوردية حتى وصل إلى مرتبة أستاذ اللغة العربية في جامعة كامبريدج. وكان قد قام في عام 1868- 1869 برحلة إلى سيناء مع علماء لجنة استكشاف فلسطين بهدف دراسة الآثار التوراتية وتتبُّع طريق خروج بنى إسرائيل في صحراء التيه. ونشر بالمر كتابا عن رحلته هذه عام 1871 باسم «صحراء الخروج». وكان يتكلم بكثير من لهجات البدو ويقرض الشعر بالعربية ، واشتهر بين قبائل سيناء باسم « الشيخ عبد الله» .
 ‎كان بالمر يعيش في نطاق راتب محدود يدره عليه منصبه في الجامعة وفى الصحافة، فلذلك رحب بالدعوة التي وصلته من لورد نورثبروك عن طريق الكابتن جيل في وزارة الحربية لاستمالة القبائل في منطقة القناة وقطاع غزة لمصلحة الجيش البريطاني وعدم التعرض بسوء لجنوده أثناء اجتياز القناة والصحراء. وقد شرحوا له المطلوب منه: منع القبائل من الانضمام إلى ثورة عرابي وألا يصلها لهيب «التعصب الإسلامي»، وزودوه بالتعليمات والمال. كان عليه أولا أن يتجول بين قبائل سيناء ليعرف مدى ولائهم للثورة، ثم عليه ثانيا أن يحاول عزل هذه القبائل عن القضية المصرية برشوة المشايخ، وإن أمكن أن يضموا للحرب في صف الانجليز. كما كان عليه شراء أكبر عدد من الجمال وأن يتسلم التعليمات من الأدميرال بوشامب سيمور قائد الأسطول البريطاني الراسي أمام الإسكندرية، ومن ثم يمضى إلى يافا ويجوب الصحراء جنوب غزة وشرقيها بلباسه العربي ويعمل على الاتصال بقبائل البدو. لم يتردد بالمر في قبول العرض لظروفه المعيشية الضيقة ، وغادر لندن في 26 يونيو في طريقه إلى مصر بوصفه مراسلا لصحيفة «ستراند». وبمجرد وصوله إلى الإسكندرية قابل الأدميرال سيمور وأعطاه أسلحة وتعليمات جديدة وأخبره أنه سيقصف الإسكندرية في موعد متفق عليه، وأنه سيرسل له تلغرافا خاصا بذلك لكى ينسق معه محاولة تهدئة القبائل السيناوية وعزلها عن عرابي . ثم قال له : «إنني أهنئ انجلترا على وجود رجل قادر مثلك، مستعد لتحمل هذا العبء الشاق» .
 ‎بعد تلك المقابلة، أبحر بالمر من الاسكندرية إلى يافا فى زورق بخاري تابع للبحرية البريطانية، ونزل ضيفاً على القـنصل الانجليزى في يافا، وهناك اشترى ملابس عربية وزاداً، واستأجر طباخا يهوديا اسمه «بخور حسُّون». وعلى الرغم من أن بالمر كان يشكو قسوة الحر وصعوبة مهمته إلا أنه كان يـُمنى نفسه بالمكافآت التي سينالها والرتب والأوسمة. واستعد ليزور أصدقاءه من قبيلة «التياها» السيناوية بعد غياب عشر سنوات. وكان يحمل في جيبه رسالة توصية من الخديو توفيق موجهة إلى موظفي الدولة في بور سعيد والقنال لإطاعة أوامره ومساعدته بلا تحفظ .
 ‎ كتب بالمر حوادث رحلته فى مفكرته التي عُثر عليها بعد مقتله بجنوب سيناء، يقول : «سيكون هناك احتلال لمصر. ومهمتي في هذه الرحلة أن أسبُر غَوْر الأعراب. وعندما يأتى الوقت سيكون لديّ القوات والسفن الحربية لتدعمني». وعندما وصل بالمر إلى غزة في 15 يوليو، كان ينتظر أخبار قصف الإسكندرية لكى يبدأ مهمته في سيناء. كتب فى مفكرته :
 ‎«غزة.15 يوليو . قضيت يومين هنا في الانتظار . وصلتني سراً أخبار قصف الاسكندرية المتوقع. لا أحد يعلم بذلك حتى الآن. سأتوجه الآن الى السويس». وكان الأدميرال سيمور قد قصف الاسكندرية في 11 يوليو حتى حل بها الدمار ثم نزل بجنوده لاحتلال الاسكندرية في 13 يوليو. وفى 16 يوليو قابل بالمر بعض أفراد قبيلة «الترّابين» السيناوية وكانوا متعطشين إلى معرفة شخصيته والوقوف على مهمته، فزعم لهم أنه ضابط سوري اسمه عبد الله أفندي في طريقه إلى مصر .
 ‎ومضى بالمر يسرد في مذكراته :
 ‎«إنني أعرف الآن كيف يمكن الوصول إلى أي شيخ من مشايخ البدو في الصحراء . وقد تمكنت من جعل قبيلة التياها – وهى أشجع القبائل وأعرفها بشئون الحرب – طوع أمرى . لقد نجحت في مهمتي أيما نجاح وإنني متعطش لوصول تعليمات من السويس .إن يوم 18 يوليو كان يوما مشهودا فقد قابلت هنا شيخ العرب الكبير و تمكنت من إقناعه بقبول آرائي. وفى اليوم التالي التقيت ببعض الرجال الذين كان عرابي باشا يسعى عبثاً لاستمالتهم إلى جانبه، وقد نجحت في استمالتهم إلينا، لا أدرى ماذا حدث في مصر منذ أن غادرتها سوى أن الإسكندرية ضربت بالقنابل كما أخبرني الأدميرال سيمور مسبقاً. وسمعت في 22 يوليو من أحد البدو الذين وصلوا حديثاً من مصر بأن عرابي باشا استطاع أن يضم إليه 2000 فارس وأنه جاء بهم إلى معسكره في القنال، و لكنهم سيرجعون متى وصلوا إلى السويس لأن رجالى يعرفونهم حق المعرفة ، فإذا لم تـُجدِ الوسائل الودية معهم سأرسل عشرة آلاف من رجال «التياها» والترابين لطردهم . وقد استملت إلى جانبنا الرجل الذى يزود الحجاج بالإبل ونظرا لأنني وعدت شيخ العرب بمنحه 500 جنيه، فأنا واثق أنه سيفعل كل ما أكلفه به، وإنني مغتبط بوصول الحرب إلى نقطة الخطر، حيث سأتمكن الآن من القيام بواجبي الكبير وأنا على ثقة من النجاح. وقد أخبرني لورد نورثبروك أنهم سيمنحونني ثلاثة آلاف جنيه متى أنجزت مهمتي » .
 ‎كان بالمر قد انطلق من غزة إلى البواطي (جنوب رفح) ثم إلى منتصف صحراء التيه، قابله أسافل الناس من البدو الذين يسعون التي الكسب السريع وتظاهروا بالاستجابة إلى دعوته الى يقول فيها : «إن عرابي خطر عليكم ، فلا تأبهوا لدعوته إلى «محاربة الكفار»، فإذا ما استجاب له بعضهم، عرض عليهم مالا لكى يقوموا ضد عرابي وللدفاع عن القناة .
 ‎كان على بالمر أن يقنع أكبر المشايخ وأهمهم إلى صفه أولا و من ثم يتبعه صغارهم ، ولا بد من أنه وقع فريسة لدهاء بعض الجمّالة والبدو. إن الواقع هو أن أهم قبائل سيناء كانت تناصر «عرابي»، فالترابين كانوا على صلة بإخوانهم في مصر الذين انخرطوا في صفوف عرابي، والحويطات كانوا يناصرونه بتأثير شيخهم المصري «سلامة بن شديد».
 ‎ابتعد بالمر عن قلعة «نخل» في وسط سيناء التي كانت تتلقى أوامرها من عرابي. ووصل إلى المغارة في 19 يوليو وانقطعت الأخبار عنه بعد قصف الاسكندرية . وكان قد كتب في مذكرته في يوم 20 يوليو: «الشيخ الذى يأمر كل العرب بعدم مهاجمة قوافل الحج المصرية هو شقيق الشيخ سليمان، أقسم لي أنه سيحمى القناة ضد عرابي لو أنني أخرجت ثلاثة شيوخ من السجن، وهذا ما أنوى عمله بواسطة سفيرنا في القسطنطينية. لقد جاءني الشيخ مصلح بن عامر وأشعر الآن بأمان وسط «التياها». وكم أتمنى لو أستطيع الإبراق إلى الأدميرال سيمور لأعطيه الأخبار، ولكن لا بد من الانتظار» .
 ‎واصل بالمر طريقه في سيناء بحذر متنقلا بين القبائل والعربان حتى وصل إلى عيون موسى القريبة من السويس ف  ليلة 13 يوليو ومعه خادمه بخور حسون، وخبيره الشيخ مطير أبو صفيح وستة من قبيلة التياها، ثم عاد الأخيرون إلى ديارهم بينما استقل بالمر قاربا أوصله إلى باخرة بريطانية ف  خليج السويس فجر يوم 12 أغسطس 1882. وبعد حمام ساخن وطعام شهي، أعطى بالمر تقريره للضباط بحضور الكابتن جيل الذى وصل من لندن عن طريق بورسعيد، وأُعطيت له الأوامر ليعود إلى الصحراء مرة أخرى ليقطع خطوط التليغراف العثمانية فتنقطع الاتصالات بين عراب  وبين استامبول ودمشق، وليؤلب قبائل سيناء على عرابي. وكانت السويس قد احتـُلت حينئذ بحملة بريطانية عسكرية صغيرة قوامها 3 مدافع و500 جند  .
 ‎وقبل ذلك مباشرة كان بالمر قد أرسل برقية «ساذجة» أنه باستطاعته جمع 40 ألف مقاتل للوقوف معه ضد عراب  . وكان العلامة القس جوسن – من علماء لجنة استكشاف فلسطين – قد قدر عدد المحاربين وقتها في قبائل سيناء بـ 3640 بدويا ، فأين هذا من أربعين ألف مقاتل؟، لكن هذه البرقية قد أقنعت وزارة الحربية البريطانية و اعتقدوا أن بإمكانهم شراء 40 ألف مقاتل بمبلغ 20 ألف جنيه استرليني . فألقى إليه السير فريدريك جولد سميث أثناء مقابلته في السويس بتعليمات أن يوزع هذا المبلغ على البدو لتنفيذ ذلك، وأن يذهب معه ضابطان لتنفيذ المهمة هما: الكابتن جيل والملازم أول تشارلنجتون .
 ‎انطلق بالمر في مهمته في 11 أغسطس 1882 ، عائداً من السويس إلى صحراء سيناء مزوداً بمبلغ عشرين ألف جنيه مصطحباً معه الكابتن جيل والملازم أول تشارلنجتون، وطباخه اليهودي «بخور حسون «ومترجم سوري «خليل عتيق» ومساعده من العربان «مطير أبو صفيح» من قبيلة الصفايحة الأحيوات وتوغلوا فى فيافى سيناء قاصدين قلعة نخل لقطع أسلاك التلغراف ومساومة البدو. ولكنهم ما إن وصلوا إلى وادى سدر حتى انقض عليهم جماعة من الترّابين والحويطات وأوثقوا رباطهم على جذوع النخيل ثم أعدموهم رميا بالرصاص. وكان سبب ذلك أن محافظ قلعة نخل» اليوزباشي على حسين «قد علم بالغرض من مهمتهم ، فدفعته وطنيته إلى القضاء عليهم واستجاب له الترابين والحويطات، وفر، مُطير أبو صفيح بالنقود. وهكذا فشلت مهمة بالمر على يد عرب سيناء الذين اعتقد بالمر خاطئاً أنه يستطيع تأليبهم ضد ثورة عرابي.
 ‎هاجت الدنيا في بريطانيا عندما عُلم الخبر بعدها بأسبوعين عن طريق المستشرق فاوست، فأوفدت وزارة الحربية البريطانية إلى سيناء بعثة عسكرية بقيادة مستر بيكر والمستشرق فاوست والكولونيل تشارلز وارين ومستر ويست قنصل انجلترا في السويس للتحقيق فيما حدث ومعرفة مكان رفات بالمر ورفاقه .
 ‎كان حادث مصرع الجواسيس الانجليز أول جريمة سياسية تقع في مصر بعد الاحتلال، فاهتمت وزارة الداخلية ودعت الشيخ سلامة بن شديد شيخ العربان في مصر، وأوفدته إلى محافظ السويس حيث جمعه بالكولونيل وارين وتعهد الشيخ لهما بألا يمر 30 يوما حتى يأتي للحكومة بالقتلة وبالشهود .
 ‎وكان للقبض على مطير أبو صفيح - بالسويس في نوفمبر من ذلك العام - أثره في التعجيل بالقبض على قتلة بالمر، حيث أقر أمام الكولونيل وارين بتفاصيل الحادث بأن النقود التي سرقها لا تزال معه وأنه قام بدفنها في مكان يعرفه وهو مستعد لاستحضارها عند الطلب، لكن عند استحضارها وُجدت ناقصة حوالى ألف جنيه. وقد عرف وارين من اعترافات «مطير» أسماء الأشخاص الذين شاركوا في أسر بالمر ورفاقه وقتلهم ، وبدأ وارين رحلة البحث عنهم..
 ‎ وسرعان ما أوفدت قوات عسكرية إلى «نخل» لاقتفاء أثر القتلة ، وسيق محافظ قلعة نخل اليوزباشي «على حسين» ومشايخ القبائل إلى السويس، وجرى معهم تحقيق مصحوب بألوان القسوة والتعذيب تحت إشراف قنصل انجلترا في السويس والكولونيل وارن. إلى أن اعترفوا بمكان رفات بالمر ورفاقه ، حيث جرى إخراجها- وقد عثر بينها على مذكراته ومذكرات الكابتن جيل كما وضحنا - ونُقلت إلى لندن عبر الاسكندرية في 16 مارس 1883 ودُفنت في كنيسة سانت بول. ولا يزال شاهد قبر بالمر موجوداً حتى هذه اللحظة هناك وعليها رثاؤه ورثاء رفاقه ( لما قدمه لبريطانيا في سبيل خدمة الملكة والشعب البريطاني).
 ‎رُحِّل المتهمون إلى الاسكندرية حيث قدموا إلى محكمة عسكرية خاصة قضت على 11 رجلا بالاعدام، وعلى 13 بالسجن مددا مختلفة، وحكم بالسجن على محافظ قلعة نخل وطرده من الخدمة العسكرية. كما تمت مصادرة أملاك مطير أبو صفيح، وصودرت جميع أملاك قبيلته من عقار وماشية ونخيل وأغنام، وتسليم ما يحصّل من ثمن البيع إلى الكولونيل وارين.
 ‎ونفذ الحكم علنا في ساحة مديرية الشرقية بالزقازيق على مشهد من مشايخ قبائل البدو، فنصبت المشانق وصعد إليها: مرسى الراشْدي . على الشويعر . سلامة أبو تلحيفة . سالم الشيخ . تراش بن محمد . عزام بن حميد العرضي. و أخوه زيدان . سالم صبحى . حسن بن مرشد . زيدان العرضي . رحمهم الله .
 ‎وجرى تنفيذ هذه الأحكام دون أن يدرى الشعب عنها أي تفصيلات سوى البلاغ الرسمي الذى نشر يوم الأربعاء 28 فبراير 1883 ونصه كالتالي: «في صباح هذا اليوم أُعدم العربان الذين صدر الأمر العالي بإعدامهم. والمديرية والبندر على ما يرام من الأمن العمومي».
 ‎وهكذا جرت الواقعة في غيبة عن الشعب والباحثين التاريخيين.. واقعة تتجلى فيها علاقة الاستشراق بالاستعمار، وبطولة أبناء سيناء الذين لم يخونوا عرابي، وتستحق أن يُطلق عليها «دنشواي الأولي» وتضيف خزيًا آخر إلى تاريخ الخديو توفيق .

جريدة الأهرام الجمعة 28 من ذو الحجة 1437 هــ 30 سبتمبر 2016 السنة 141 العدد 47415
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/553406.aspx#.V-4hl_a2w-Y.facebook

هناك تعليق واحد:

  1. من التاريخ المدفون لطمس الحقائق والتي يحتاج اليها النسابون وصانعي التاريخ

    ردحذف