تهتم هذه المدونة وتعنى بأنساب وتاريخ وأعراف وتقاليد وأخبار وأعلام وشؤون قبائل المساعيد

الأحد، فبراير 02، 2020

القضاء العرفي في مصر

كتب: حاتم عبد الهادي السيد
القاهرة 28 يناير 2020

عرف القضاء العرفي في سيناء باسم القضاء المسعودي؛ نظراً لتخصص قبيلة المساعيد في قضاء المنشد، ويعتبر المنشد أعلى مرتبة في القضاء العرفي. والمنشد هو اصطلاح أطلقه كبار المساعيد منذ القدم وذلك للفصل في القضايا الكبرى؛ أو تلك التي يعجز الفصل فيها بين القضاة العرفيين فيردوها للقاضي المسعودي، ويكون حكمه الفيصل فيها، ولا رد لقاضى المساعيد إذا حكم، ويعتبر حكمه نهائياً ونافذاً، فلا نقض فيه أو إبرام، كما لا يمكن إلغاء أو تعديل أو إبطال أي حكم أو قانون يصدره قاضى المنشد المسعودي، ولا حتى من قبل أي قاض آخر سوى القاضي المسعودي . 

كما للقاضي المسعودي أن يستصدر قانوناً جديداً للتعامل مع القضية المسندة إليه للتوافق مع الأوضاع الجديدة للمشكلة وهو له فقط هذه الصلاحية في ابتداع أو إصدار أية قوانين أو أحكام يراها صالحة للفصل في القضية المحالة إليه، ويكون حكمه نافذاً، ولا رجعة فيه، كما أن أحكامه غير قابلة للجدل والمناقشة، إلا من قاض مسعودي آخر يكون أعلى منه مرتبة، ولابد أن يُقرّ به القاضي المسعودي الذي حكم في القضية.
أما عن القضاء العرفي في سيناء، فإن كل قبيلة اختصت بجزء من القضاء، دون أن يكون الحق للقبيلة الأخرى اقتحام هذا الحق، فإذا اختلف القضاة يتم رد القضية إلى المنشد أو القاضي المسعودي، وعندئذ يكون حكمه نافذاً، لا إبرام فيه ولا نقاش ولا جدال، وعلى المحكوم عليه ــ بما نطقه القاضي المسعودي " قاضى المنشد " ــ أن يفي بما حكم، أو يفي عنه "كفيله الذي تكفله"، وتلك أمور عرفها البدو، وارتضوا بها كابراً عن كابر؛ فالقضاء المسعودي قضاء مهيب وعظيم، إذ الحكم فيه يكون رادعاً لمنع الجرائم في البادية، ليرتدع الآخرون حتي لا تسول لهم أنفسهم فعل مثل هذه الأخطاء، وليس معني ذلك أنه قانون جائر، بل إن حكمه يستند إلى كتاب الله وسنة رسوله، ثم ما تعارف عليه الجميع من القضايا المستحدثة، أو المتعارف عليها، ويتميز المنشد بتقدير العقوبة التي يرتكبها كل من قصد وتعدى على وجوه الكفلاء، أو من تعدى علي عفة المرأة، أو أراد النيل منها، وتكون العقوبة مغلظة لمن تعدى على عفة طفلة أو فتاة حدث وهذه من الجرائم المغلظة الرادعة ليعم السلام بين ربوع البوادي، ولتأمن الفتاة والمرأة والطفلة من السير في الصحراء لقضاء حوائجها كرعي الأغنام، أو الزراعة أو غير ذلك من أمورها العامة وقضاء المنشد يمثل الحقوق العامة للمرأة، فهو يعلي من حقوقها لدي البادية، فالمرأة والاعتداء علي عفتها من الأمور الجليلة في بادية سيناء، بل وفي كل البوادي العربية دون استثناء ويلجأ للمنشد أو للقاضي المسعودي كل من أقر بذنبه، واعترف بجرمه، دون اعتراض أو نكران أو إذا صاحت المرأة (صيحة الضحى، أو صيحة الليل) ــ كما سيجيء ــ أو إذا أسمعت من اعتدي عليها، أو إذا لم تعرفه وكان هناك شهود، أو حتى إذا لم يكن هناك شهود، فقد تكون في الخلاء وتم الاعتداء عليها وصاحت ولم يسمعها أحد فإذا رجعت وأخبرت أهلها فلها حق المنشد، وكل حالة من الحالات السابقة لها قضاؤها كما سيجيء لاحقاً والمنشد يبحث في مسائل العرض، وتقطيع الوجه، ودخول البيت، والضرب داخل البيت، وغير ذلك. ولقد اشتهرت قبيلة المساعيد بذلك فغدا سلواً لكل قبائل سيناء، فقضاء المنشد للمسعودي، ودون قضاء المساعيد لا مناشد، أو قطع وجه أو غير ذلك مما ذكرنا، ومما سيجيء لاحقاً ونظام القضاء العرفي في سيناء نظام محكم، وفيه يتخصص القضاة، حيث إن لديهم قضاة لكل نوع من القضايا، وقد أكسب هذا التخصص كثيرا من القضاة دربة وحكمة وخبرة كلُ في مجاله، وليس كل فرد يتولى أمر القضاء، بل ينتقي منه الحكماء من خواص الرجال، والعارفين بأمور القضاء والمتوارثة أحكامه عن القدماء منذ قرون طويلة كما أن القضايا الكبرى تستدعي تدخل كبار القضاة العرفيين في كل القبائل، فإذا ما حدثت واقعة أو معركة بين قبيلتين تطلب ذلك تدخل الحكومة، إلى جانب كبار قضاة ومشايخ سيناء لحل النزاع بين القبيلتين، وغالباً ما يتدخل محافظ الاقليم، أو مدير الأمن، أو حتي وزير الداخلية، إذا استدعى الأمر ذلك ، وحكم القضاة العرفيين معترف به عند الحكومة المصرية في سيناء، بل إن وزارة الداخلية تختص باختيار القضاة والمشايخ لحل المنازعات في أغلب القضايا؛ لأن الأمر يستدعي معرفة بوقائع الحادثة وملابساتها وأسبابها، ومن ثم معرفة الجانب المتعدي وتوجيه العقوبة عليه. وغالباً ما تكون العقوبة عرفية، وعندئذ تنتهي المشكلة، كما أن الحكومة إذا تدخلت وتقاضت قبيلتان وحكم لإحداهما ولم توف القبيلة المحكوم عليها بالوفاء بالحكم، فإن للحكومة عندئذ أن تتدخل لتحقيق العدالة بقوة العرف والقانون، ليعم السلام والأمن بين ربوع البادية. والحقيقة أن البدو ينظرون إلى تدخل الحكومة بعين التقدير والاعتبار؛ لأن مصلحتها تحقيق الأمن والسلام بين ربوع سيناء والحقيقة فقد أحكمت الحكومة المصرية منذ بداية القرن التاسع عشر السيطرة علي البدو في شبه جزيرة سيناء في ذلك الوقت، يعني الأمن بمفهومه العام، وأمن طرق التجارة بين مصر وبلاد الشام بصفة خاصة، وطريق الحج المصري الذي ظل مستخدماً حتى عام 1885م، وكذلك طرق الحجاج المسيحيين والأوربيين وغيرهم إلى دير سانت كاترين، كما أنه من الملاحظ أن التدخل الحكومي في شئون البدو كان مرهوناً بحدوث اختلال للأمن والنظام، كما أن هذا التدخل كان مقصوراً على تلك القضايا التي يتقدم أصحابها طالبين من السلطات الحكومية التدخل فيها، أو تلك الحوادث المخلة بالأمن القومي في شبه الجزيرة. ولقد حاولت الحكومة المصرية إدخال البدو تحت سلطة القانون المصري، فكان أن أصدرت أوامرها في عام 1853م إلى مشايخ البدو بترك عادات العرب القديمة، ومن له قضية أو دعوة مظلمة يقوم برفع دعواه أمام المحاكم المصرية. وتعد هذه المحاولات المبكرة أولى المحاولات لإخضاع بدو سيناء لسلطة القانون المصري، لهذا أخذت الحكومة تشجع البدو علي رفع دعاواهم أمام المحاكم الشرعية منذ إنشاء محافظة سيناء وعاصمتها العريش، فوجدت محكمة العريش الشرعية آنذاك. ولقد كانت الحكومة ترى أن النظام العرفي الذي كان سائداً بين بدو سيناء هو نظام مرضي لها طالما أنه كان يحقق منظومة الأمن في ربوع شبه الجزيرة، خاصة أن النظام العرفي لم يكن سائداً بين بدو سيناء فحسب، بل هو السائد بين سائر البدو في الديار المصرية كلها آنذاك. ولعل نظرة الحكومة المصرية قد كانت ثاقبة، إذ الأمر يحتاج إلى تدرج أولي، ولقد التجأ بعض بدو سيناء، وسكان مدينة العريش للمحاكم، دون الرجوع لقاضيهم العرفي. وبذلك دخلت سيناء عصر النهضة المصرية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ــ كما يذكر الباحثون ــ  خاصة أن العرف في البادية قد أنصف المرأة إلا أن العادات والتقاليد كانت تسلبها الكثير من الحقوق كحق الميراث عند بعض العشائر، وليس عند كل البدو بالطبع ــ وحق اختيار زوجها نظراً للمثل القديم: (البنت محجوزة لابن العم وابن عم العم) أو كما يقولون في المثل الدارج: (يأكلها التمساح، ولا يأخذها الفلاح) أي يتزوجها ابن عمها أو قريبها أو تموت، ولا يأخذها الغريب وغير ذلك، كما أن القضاء العرفي ليس له قانون مكتوب في الغالب بل الحكم فيه مرده إلى ضمير القاضي ــ ولا تشكيك بالطبع في ضميره. ومع أن الكثير من القضاة أو الشهود بل غالبتهم لم يكونوا ليأخذوا الرزقة (وهي مبلغ من المال يخصص للقاضي الذي يحكم من قبل من يحكم عليه، إلا أن نظام القضاء المدني قد أصبح سمة موجودة، ويلجأ بعض البدو وكثير من الحضر على السواء إليه، ومع كل ذلك فقد بقي للقانون العرفي قضاته وقوته، ومع التقدم في علم القانون إلا أن القضاء العرفي ما زالت له اليد الطولى في حل الكثير من قضايا البدو والحضر على السواء، وإلى يومنا هذا ما زال الجميع يذهبون إليه في القضايا، وإلا ستنشب النزاعات بين القبائل وربما الحروب، فجرائم القتل والاعتداء على عفة النساء مثلاً تتطلب التدخل الفوري لعدم تعدي أحد الطرفين على الآخر حتي لا تقطر دماء جديدة؛ علاوة على أن العصبية والتعصب للقبيلة والعشيرة ما زالت هي السمة الغالبة بين القبائل، وبالتالي فلا مناص من وجود القضاء العرفي، ولا مندوحة عنه؛ لذا سمحت الحكومة بتعظيم الهيبة لهذا القضاء، بل وارتضت أحكامه، خاصة في القضايا الكبرى التي تتطلب تدخل الجميع: الحكومة، وكبار المشايخ ، والقضاة العرفيين في كافة القبائل الأخرى؛ ليعم الأمن والسلام بين ربوع البوادي. إذن لا مندوحة عن القضاء العرفي، ولذا ظلت له الهيبة، والأخذ بأحكامه إلى يومنا هذا في سيناء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق