لا تزال كثيرٌ من صفحات تاريخ مشاركة القبائل العربيّة في المجهود الحربيّ المصريّ ضدّ الدولة اليهوديّة مجهولة لم يُكتب لها أن ترى النور ، إلى أن يُبادر بعض أبطال العمليّات إلى إماطة اللثام عن بعض ما قام به أبناء سيناء . ومن بين ما تمّ الكشف عنه من عمليّات داخل سيناء ما أورده اللواء الدكتور نصر محمد سالم في كتابه ( 180 يوماً خلف خطوط العدوّ ) الذي صدر عام 2020 م .
جاء في عرض الدكتورة عزّة بدر لبعض ما ورد في الكتاب قولها : يصف لواء د . نصر إحدى مهامه القتالية فيقول : " في أحد الأيام طلبت منّي القيادة الحصول على أحدث المعلومات عن العدو في منطقة تبعد عن منطقتنا بأكثر من خمسين كيلو مترًا شرقاً ، وبعد دراسة الموقف على الخريطة وجدت أنَّ هذه المنطقة المطلوب استطلاعها يلزم الوصول إليها التحرّك لمسافة أربعين كيلو متراً في أرض مفتوحة تماماً ، أي مكشوفة ... " ، وهنا يبرز اللواء نصر محمد بطولات مدنية أخرى مثل الشيخ سليم وهو من قبيلة الأحيوات من أكبر قبائل سيناء وأكثر وطنية وإخلاصاً لمصر وحُبّاً لجيشها وتعاوناً معه ، والذى وضع خبرته بالطرُق والجبال أمام أبطالنا البواسل ، وكذلك أخوه الأصغر سعد الذى صاحَب اللواء نصر في رحلته لاكتشاف المنطقة بعد ساعاتٍ مضنية من ركوب الجَمل تارةً ، والركض خلفه تارةً .
وكان سعد على درجة من المهارة والدقة التي أوصلتهما إلى داخل الجبل في واد تحوطه القمم العالية وتقدّما وصعدا السلسلة الصخريّة ؛ حيث تسنّى للواء نصر رؤية معسكر العدو وحصر جميع المعلومات عن الموقف وإبلاغها قبل وصول العدو فأحصى عدد الدبابات والمعدات والأفراد في المعسكر من الوضع جالساً فوق الصخرة ، وأبلغ المعلومات كاملة للقيادة بجهاز اللاسلكي رُغم أنه في مرمَى رؤية جنود العدو ولم يكن ليستغرق صعودهم إليه إلّا نحو عشرين دقيقة وخمس عشرة ثانية .
ويصف المؤلف هذه اللحظات فيقول : " فوق هذه السلسلة الصخرية الجرانيتية من أعلى جبل في سيناء الوسطى ، جلست بكل الرضا بعد أن أبلغت جميع المعلومات الخاصّة بالعدوّ الموجود في المعسكر ، وكان عبارةً عن لواءٍ مدرّعٍ ، وعرف أنّه تقريبًا متوغّلٌ داخل المعسكر لمسافة لا تقل عن خمسمائة متر، وقد يقومون بالنداء عليَّ وطلب الاستسلام لهم قبل أن يطلقوا عليَّ نيرانهم وأنا حتمًا لن أستسلم لهم ولن أقبل الأسْر ، إنَّ معي ثلاثين طلقة من الذخيرة أستطيع الاشتباك بها حتى تنفد ، ولكن ماذا أفعل لو نفدت ذخيرتي قبل أن يتمكن أحدهم من إصابتي ، ونيلي شرف الشهادة .. إنَّ استشهادي في هذا المكان الرائع الجمال لأمر يبعث على البهجة ، اللهم اكتبها لي ولا تحرمنيها " . لكنّه نجا ، ولم يره أحد ، وطلب من سعد أن يعود بالجَمل إلى بيته قبل شروق الشمس ، وظل اللواء مع باقي المجموعة التي استقبلتهما بفرحة أنستهما عناء الرحلة ، وكاد العدو أن يتحرك تجاه الفرقة إلّا أنَّ اللِّواء نصر محمد قد رأى أنّهم مجرّد سريّة مُشاة ميكانيكيّة من قوّات العدوّ كانت تتدرّب على الرماية التكتيكيّة الجافّة دون ذخيرة ، وسوف تستكمل الرماية بالذخيرة الحيّة في اليوم التالي ، فغادر أبطالنا إلى جبل أكثر أمناً ، فانتقلوا إلى جبل أكبر حجماً ومساحةً وأكثر ارتفاعاً ، وكان الجبل هو جبل الحيطان الذى حمى ظهور الأبطال ، إضافة إلى الشجيرات الكثيرة التي تغطّى أرضه فتعطي الإحساس بأنّهم في أحد الحقول ، لقد كانت الجبال أيضاً ، جبال سيناء التي عرفها جنودنا ، هي أيضًا تشهد على البطولات الرائعة لجنودنا البواسل .. سيناء التي درسها المقاتلون فعرفوا كلَّ شبرٍ فيها حتى حفظوها عن ظهر قلب ....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق