بعض الكتّاب والكاتبات لا يلقون في حياتنا الثقافية ما يستحقون
بالفعل من انتباه وتكريم، ويودّعون الحياة وأبناءُ جلدتهم والأقربون إليهم لا
يعرفون مكانتهم الحقيقية وسبقَهم الإبداعي اللافت. وهذا ما حدث مع الشاعرة والباحثة
والأكاديمية الراحلة ثريا عبد الفتاح ملحس التي أنجزت في حياتها المديدة (1925-
2013) الكثير؛ شعراً وبحثاً وتعليماً. لقد كرّست نفسها للعلم والمعرفة والإبداع،
بعد انتقالها مع أهلها من مسقط رأسها نابلس لتكمل تعليمها في مدارس عمّان والقدس
وتتابع دراستها الأكاديمية في الجامعة الأمريكية في بيروت وكليّة الدراسات الشرقية
في جامعة لندن، ثم تعود إلى بيروت فتعلّم في الجامعتين الأمريكية
واللبنانية.
ضربت ثريا ملحس، التي استقرت منذ ثمانينيات القرن الماضي في عمّان فلم تلتفت لها الحياة الثقافية الأردنية إلا لماماً، مثالَ المرأة العصريّة التي تؤمن أن التعليم والإسهام في الحياة الثقافية والفكرية والإبداعية هي من بين الأولويات بالنسبة للمرأة العربية المعاصرة، فكانت واحدةَ من بين نساء فلسطينيات وأردنيات تابعن تحصيلهن العلميّ إلى آخر الشوط، غير مباليات بسوط التخلّف المسلط على رأس المرأة العربية في زمانهن، إن لم يكن في زماننا نحن أيضا. وهي بهذا المعنى عبّدت الطريق لآلاف، بل ملايين، النساء العربيات ليأخذن أمرهن بأيديهن ويقتحمن قلعة التعلّم والتعليم التي كانت، قبلها وقبل بنات جيلها، حكرا على الرجال وحدهم؛ فأن تذهب فتاة فلسطينية أردنية للدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت في بداية أربعينيات القرن العشرين هي معجزة بحدّ ذاتها تستحق ثريّا ملحس، كما تستحق أسرتها، التحية والعرفان والتكريم بسببها؛ لأن هذا الفعل التحديثيّ نقل المجتمع الفلسطيني ـ الأردني من عصر إلى عصر.
لكن ثريّا ملحس لم تكتف بالدراسة والتحصيل العلميّ، وصولاً إلى الحصول على شهادة الدكنوراه في الأدب العربيّ، بل أصبحت من أوائل النساء العربيات اللواتي علّمن في الجامعة، إذ أنجزت عشرات الكتب حول الادب العربي القديم، تخصيصاً، والادب العربيّ عموماً، مزيلةً الغبار المتراكم عن بعض مراحل الأدب العربيّ القديم حين كتبت أطروحتها الضخمة لنيل شهادة الدكتوراه عن الشاعر محمود بن الحسين المعروف بأبي الفتح كشاجم البغدادي.
الأهم من هذا كلّه هو دور ثريّا ملحس في تثبيت أقدام قصيدة النثر ( «الشعر المنثور» حينها) في التجربة الشعرية العربية المعاصرة، فهي من أوائل من أصرّوا على الكتابة في هذا الشكل الذي زرع بذوره الأولى كلٌّ من جبران خليل جبران وأمين الريحاني. وقد تابعت هذه التجربة على صفحات مجلة «الأديب» البيروتية التي كانت قبل صدور الآداب أهم مجلة عربية تلتقي على صفحاتها تيارات الأدب العربي المعاصر ونخبة الكتّاب البارزين في مشرق العالم العربي ومغربه، من محيطه إلى خليجه. كما كانت دواوينها الأولى: «النشيد التائه» (1949)، و»قربان» (1952)، و»أناشيد ومجامر» (1946- 1956) جزءا لا يتجزّأ من عمليّة التحديث الشعريّ في أربعينيّات القرن الماضي. فهذه المجموعات الشعرية، التي تنتمي في بعضٍ من روحها إلى التجربة الجبرانيّة، تتخطّى تلك جبران إلى ما يصل بها أحياناً إلى آفاق التأثيرات البودليريّة والرامبويّة، من خلال نزوعها المتمرد وسعيها إلى العصف بالمواضعات والتقاليد، الشعريّة وغير الشعريّة. إن شعر ثريا ملحس، على الأقل في المجموعات التي أنجزت في مرحلة الشباب، يقترب في روحيّته وشكله من شعر توفيق صايغ وجبرا إبراهيم جبرا وعدد آخر من الشعراء الذين بدأوا ينشرون في مجلة «الأديب» ثم تحوّلوا إلى مجلة «شعر» بعد أن أصدر يوسف الخال عددها الأول عام 1957.
ورغم أنني أعلم أن مجلة تايكي، بمبادرة جسورة من رئيسة تحريرها الزميلة القاصة بسمة النسور، قد عقدت حلقة نقدية حول منجز ثريا ملحس منذ سنوات، فإن الأدوار التحديثيّة، على مستوى التعليم والمجتمع، وعلى مستوى الدخول بالقصيدة العربية إلى عالم التحديث الشكليّ والمعنويّ، التي لعبتها شاعرتنا الراحلة، تجعلنا نعيد التفكير بمنجزها، وتدفعنا إلى الالتفات إلى عملها بصورة أفضل، حتى ولو أتى ذلك بعد رحيلها.
جريدة الدستور :http://www.addustour.com/ViewTopic.aspx?ac=%5CArtsAndCulture%5C2013%5C02%5C ArtsAndCulture_issue1955_day28_id470977.htm
ضربت ثريا ملحس، التي استقرت منذ ثمانينيات القرن الماضي في عمّان فلم تلتفت لها الحياة الثقافية الأردنية إلا لماماً، مثالَ المرأة العصريّة التي تؤمن أن التعليم والإسهام في الحياة الثقافية والفكرية والإبداعية هي من بين الأولويات بالنسبة للمرأة العربية المعاصرة، فكانت واحدةَ من بين نساء فلسطينيات وأردنيات تابعن تحصيلهن العلميّ إلى آخر الشوط، غير مباليات بسوط التخلّف المسلط على رأس المرأة العربية في زمانهن، إن لم يكن في زماننا نحن أيضا. وهي بهذا المعنى عبّدت الطريق لآلاف، بل ملايين، النساء العربيات ليأخذن أمرهن بأيديهن ويقتحمن قلعة التعلّم والتعليم التي كانت، قبلها وقبل بنات جيلها، حكرا على الرجال وحدهم؛ فأن تذهب فتاة فلسطينية أردنية للدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت في بداية أربعينيات القرن العشرين هي معجزة بحدّ ذاتها تستحق ثريّا ملحس، كما تستحق أسرتها، التحية والعرفان والتكريم بسببها؛ لأن هذا الفعل التحديثيّ نقل المجتمع الفلسطيني ـ الأردني من عصر إلى عصر.
لكن ثريّا ملحس لم تكتف بالدراسة والتحصيل العلميّ، وصولاً إلى الحصول على شهادة الدكنوراه في الأدب العربيّ، بل أصبحت من أوائل النساء العربيات اللواتي علّمن في الجامعة، إذ أنجزت عشرات الكتب حول الادب العربي القديم، تخصيصاً، والادب العربيّ عموماً، مزيلةً الغبار المتراكم عن بعض مراحل الأدب العربيّ القديم حين كتبت أطروحتها الضخمة لنيل شهادة الدكتوراه عن الشاعر محمود بن الحسين المعروف بأبي الفتح كشاجم البغدادي.
الأهم من هذا كلّه هو دور ثريّا ملحس في تثبيت أقدام قصيدة النثر ( «الشعر المنثور» حينها) في التجربة الشعرية العربية المعاصرة، فهي من أوائل من أصرّوا على الكتابة في هذا الشكل الذي زرع بذوره الأولى كلٌّ من جبران خليل جبران وأمين الريحاني. وقد تابعت هذه التجربة على صفحات مجلة «الأديب» البيروتية التي كانت قبل صدور الآداب أهم مجلة عربية تلتقي على صفحاتها تيارات الأدب العربي المعاصر ونخبة الكتّاب البارزين في مشرق العالم العربي ومغربه، من محيطه إلى خليجه. كما كانت دواوينها الأولى: «النشيد التائه» (1949)، و»قربان» (1952)، و»أناشيد ومجامر» (1946- 1956) جزءا لا يتجزّأ من عمليّة التحديث الشعريّ في أربعينيّات القرن الماضي. فهذه المجموعات الشعرية، التي تنتمي في بعضٍ من روحها إلى التجربة الجبرانيّة، تتخطّى تلك جبران إلى ما يصل بها أحياناً إلى آفاق التأثيرات البودليريّة والرامبويّة، من خلال نزوعها المتمرد وسعيها إلى العصف بالمواضعات والتقاليد، الشعريّة وغير الشعريّة. إن شعر ثريا ملحس، على الأقل في المجموعات التي أنجزت في مرحلة الشباب، يقترب في روحيّته وشكله من شعر توفيق صايغ وجبرا إبراهيم جبرا وعدد آخر من الشعراء الذين بدأوا ينشرون في مجلة «الأديب» ثم تحوّلوا إلى مجلة «شعر» بعد أن أصدر يوسف الخال عددها الأول عام 1957.
ورغم أنني أعلم أن مجلة تايكي، بمبادرة جسورة من رئيسة تحريرها الزميلة القاصة بسمة النسور، قد عقدت حلقة نقدية حول منجز ثريا ملحس منذ سنوات، فإن الأدوار التحديثيّة، على مستوى التعليم والمجتمع، وعلى مستوى الدخول بالقصيدة العربية إلى عالم التحديث الشكليّ والمعنويّ، التي لعبتها شاعرتنا الراحلة، تجعلنا نعيد التفكير بمنجزها، وتدفعنا إلى الالتفات إلى عملها بصورة أفضل، حتى ولو أتى ذلك بعد رحيلها.
جريدة الدستور :http://www.addustour.com/ViewTopic.aspx?ac=%5CArtsAndCulture%5C2013%5C02%5C ArtsAndCulture_issue1955_day28_id470977.htm
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق