تهتم هذه المدونة وتعنى بأنساب وتاريخ وأعراف وتقاليد وأخبار وأعلام وشؤون قبائل المساعيد

الثلاثاء، يوليو 03، 2012

القضاء العرفى فى الديار المصرية للأستاذ حاتم عبد الهادي السيّد

القضاء العرفى فى الديار المصرية


عرف القضاء العرفى فى سيناء باسم القضاء المسعودي ، نظراً لتخصص قبيلة المساعيد فى قضاء المنشد ، ويعتبر المنشد أعلى مرتبة فى القضاء العرفى ، والمنشد هو اصطلاح أطلقة كبار المساعيد منذ القدم وذلك للفصل فى القضايا الكبرى ؛ أو تلك التى يعجز الفصل فيها بين القضاة العرفيين فيردوها للقاضى المسعودي ، ويكون حكمه الفيصل فيها ، ولا رد لقاضى المساعيد إذا حكم ، ويعتبر حكمه نهائياً ونافذاً ، فلا نقض فيه أو ابرام ، كما لا يمكن الغاء أو تعديل أو ابطال أي حكم أو قانون يصدره قاضى المنشد المسعودي ، ولا حتى من قبل أي قاض آخر سوى القاضى المسعودي ، كما للقاضى المسعودي أن يستصدر قانوناً جديداً للتعامل مع القضية المسندة اليه للتوافق مع الأوضاع الجديدة للمشكلة وهو له فقط هذه الصلاحية فى ابتداع أو اصدار أية قوانين أو أحكام يراها صالحة للفصل فى القضية المحالة إليه ، ويكون حكمه نافذاً ، ولا رجعة فيه ، كما أن أحكامه غير قابل للجدل والمناقشة ، إلا من قاضى مسعودي آخر يكون أعلى منه مرتبة ، ولابد أن يُقرّ به القاضى المسعودي الذى حكم فى القضية .
أما عن القضاء العرفى فى سيناء ، فإن كل قبيلة اختصت بجزء من القضاء ، دون أن يكون الحق للقبيلة الأخرى اقتحام هذا الحق ، فإذا اختلف القضاة يتم رد القضية إلى المنشد أو القاضى المسعودي ، وعندئذ يكون حكمه نافذاً ، لا ابرام فيه ولا نقاش ولا جدال ، وعلى المحكوم عليه ــ بما نطقه القاضى المسعودي " قاضى المنشد " ــ أن يفى بما حكم ، أو يفي عنه " كفيله الذى تكفله " ، وتلك أمور عرفها البدو، وارتضوا بها كابراً عن كابر ؛ فالقضاء المسعودي قضاء مهيب وعظيم ، إذ الحكم فيه يكون رادعاً لمنع الجرائم فى البادية ، ليرتدع الآخرون حتي لا تسول لهم أنفسهم فعل مثل هذه الأخطاء ، وليس معني ذلك أنه قانون جائر ، بل أن حكم يستند الي كتاب الله وسنة رسوله ، ثم ما تعارف عليه الجميع من القضايا المستحدثة ، أو المتعارف عليها ، ويتميز المنشد بتقدير العقوبة التي يرتكبها كل من قصد وتعدى على وجوه الكفلاء ، أو من تعدى علي عفة المرأة ، أو أراد النيل منها ، وتكون العقوبة مغلظه لمن تعدى علي عفة طفلة أو فتاة حدث وهذه من الجرائم المغلظة الرادعة ليعم السلام بين ربوع البوادي ، ولتأمن الفتاة والمرأة والطفلة من السير في الصحراء لقضاء حوائجها كرعي الأغنام ، أو الزراعة أو غير ذلك من أمورها العامة وقضاء المنشد يمثل الحقوق العامة للمرأة ، فهو يعلي من حقوقها لدي البادية ، فالمرأة والاعتداء علي عفتها من الأمور الجليلة فى بادية سيناء ، بل وفي كل البوادي العربية دون استثناء ويلجأ للمنشد أو للقاضي المسعودي كل من أقر بذنبه ، واعترف بجرمه ، دون إعتراض أو نكران أو إذا صاحت المرأة ( صيحة الضحي ، أو صيحة الليل ) ــ كما سيجيء ــ أو إذا أسمعت من اعتدي عليها ، أو إذا لم تعرفه وكان هناك شهود ، أو حتي إذا لم يكن هناك شهود ، فقد تكون في الخلاء وتم الاعتداء عليها وصاحت ولم يسمعها أحد فاذا رجعت وأخبرت أهلها فلها حق المنشد ، وكل حالة من الحالات السابقة لها قضاؤها كما سيجيء لاحقاً والمنشد يبحث في مسائل العرض ، وتقطيع الوجه ، ودخول البيت، والضرب داخل البيت، وغير ذلك. ولقد أشتهرت قبيلة المساعيد بذلك فغدا سلواً لكل قبائل سيناء ، فقضاء المنشد للمسعودي ، ودون قضاء المساعيد لا مناشد ، أو قطع وجه أوغير ذلك مما ذكرنا ، ومما سيجيء لاحقاً ونظام القضاء العرفي في سيناء نظام محكم ، وفيه يتخصص القضاة ، حيث أن لديهم قضاة لكل نوع من القضايا ، وقد أكسب هذا التخصص كثير من القضاة دربة وحكمة وخبرة كلُ في مجاله ، وليس كل فرد يتولي أمر القضاء، بل ينتقي منه الحكماء من خواص الرجال ، والعارفين بأمور القضاء والمتوارثة أحكامه عن القدماء منذ قرون طويلة كما أن القضايا الكبري تستدعي تدخل كبار القضاة العرفيين في كل القبائل ، فإذا ما حدثت واقعة أو معركة بين قبيلتين تطلب ذلك تدخل الحكومة ، إلي جانب كبار قضاة ومشايخ سيناء لحل النزاع بين القبيلتين ، وغالباً ما يتدخل محافظ الاقليم ، أو مدير الأمن ، أو حتي وزير الداخلية ، إذا استدعي الأمر ذلك ، وحكم القضاة العرفيين معترف به عند الحكومة المصرية في سيناء ، بل وأن وزارة الداخلية تختص باختيار القضاة والمشايخ ، لحل المنازعات في أغلب القضايا ، لأن الأمر يستدعي معرفة بوقائع الحادثة وملابساتها وأسبابها ، ومن ثم معرفة الجانب المتعدي وتوجيه العقوبة عليه ، وغالباً ما تكون العقوبة عرفية ، وعندئذ تنتهي المشكلة ، كما أن الحكومة إذا تدخلت وتقاضت قبيلتان وحكم لأحدهما ولم توف القبيلة المحكوم عليها بالوفاء بالحكم ، فان للحكومة عندئذ أن تتدخل لتحقيق العدالة بقوة العرف والقانون ، ليعم السلام والأمن بين ربوع البادية ، والحقيقة أن البدو ينظرون لتدخل الحكومة بعين التقدير والاعتبار ، لأن مصلحتها تحقيق الأمن والسلام بين ربوع سيناء والحقيقة فقد أحكمت الحكومة المصرية منذ بداية القرن التاسع عشر السيطرة علي البدو في شبه جزيرة سيناء في ذلك الوقت ، يعني الأمن بمفهومه العام ، وأمن طرق التجارة بين مصر وبلاد الشام بصفة خاصة ، وطريق الحج المصري الذي ظل مستخدماً حتي عام 1885م ، وكذلك طرق الحجاج المسيحيين والأوربيين وغيرهم الي دير سانت كاترين كما أنه من الملاحظ أن التدخل الحكومي في شئون البدو كان مرهوناً بحدوث اختلال للأمن والنظام ، كما أن هذا التدخل كان مقصوراً علي تلك القضايا التي يتقدم أصحابها طالبين من السلطات الحكوميه التدخل فيها ، أو تلك الحوادث المخلة بالأمن القومى في شبه الجزيرة ولقد حاولت الحكومة المصرية ادخال البدو تحت سلطة القانون المصري ، فكان أن أصدرت أوامرها في عام 1853م الي مشايخ البدو بترك عادات العرب القديمة ، ومن له قضية أو دعوة مظلمة يقوم برفع دعواه أمام المحاكم المصرية ، وتعد هذه المحاولات المبكرة أولي المحاولات لإخضاع بدو سيناء لسلطة القانون المصري ، لهذا أخذت الحكومة تشجع البدو علي رفع دعاواهم أمام المحاكم الشرعية منذ انشاء محافظة سيناء وعاصمتها العريش ، فوجدت محكمة العريش الشرعيه آنذاك ، ولقد كانت الحكومة تري أن النظام العرفي الذي كان سائداً بين بدو سيناء هو نظام مرضي لها طالما أنه كان يحقق منظومة الأمن في ربوع شبه الجزيرة ، خاصة وأن النظام العرفي لم يكن سائداً بين بدو سيناء فحسب ، بل هو السائد بين سائر البدو في الديار المصرية كلها آنذاك ولعل نظرة الحكومة المصرية قد كانت ثاقبة ، اذا الأمر يحتاج الي تدرج أولي ، ولقد التجأ بعض بدو سيناء ، وسكان مدينة العريش للمحاكم ، دون الرجوع لقاضيهم العرفي ، وبذلك دخلت سيناء عصر النهضة المصرية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ــ كما يذكر الباحثون ــ ، خاصة وأن العرف في البادية قد أنصف المرأة إلا أن العادات والتقاليد كانت تسلبها الكثير من الحقوق كحق الميراث عند بعض العشائر ، وليس عند كل البدو بالطبع ــ وحق اختيار زوجها نظراً للمثل القديم : ( البنت محجوزة لإبن العم وابن عم العم ) أو كما يقولون في المثل الدارج : ( يأكلها التمساح ، ولا يأخذها الفلاح ) أي يتزوجها ابن عمها أو قريبها أو تموت، ولا يأخذها الغريب وغير ذلك ، كما أن القضاء العرفي ليس له قانون مكتوب فى الغالب بل الحكم فيه مرده الي ضمير القاضي ــ ولا تشكيك بالطبع في ضميره . ومع أن الكثير من القضاة أو الشهود بل غالبتهم لم يكونوا ليأخذوا الرزقة ( وهي مبلغ من المال يخصص للقاضي الذي يحكم من قبل من يحكم عليه ) ، إلا أن نظام القضاء المدني قد أصبح سمة موجودة ، ويلجأ بعض البدو وكثير من الحضر على السواء اليه ، ومع كل ذلك فقد بقي للقانون العرفي قضاته وقوته ، ومع التقدم في علم القانون إلا أن القضاء العرفي ما زالت له اليد الطولي في حل الكثير من قضايا البدو والحضر علي السواء ، والي يومنا هذا ما زال الجميع يذهبون اليه في القضايا ، وإلا ستنشب النزاعات بين القبائل وربما الحروب ، فجرائم القتل والاعتداء علي عفة النساء مثلاً تتطلب التدخل الفوري لعدم تعدي أحد الطرفين علي الآخر حتي لا تقطر دماء جديدة علاوة علي أن العصبية والتعصب للقبيلة والعشيرة ما زال هو السمة الغالبة بين القبائل ، وبالتالي فلا مناص من وجود القضاء العرفي ، ولا مندوحه عنه ، لذا سمحت الحكومة بتعظيم الهيبة لهذا القضاء ، بل وارتضت أحكامه ، خاصة في القضايا الكبرى والتي تتطلب تدخل الجميع ، الحكومة ، وكبار المشايخ ، والقضاة العرفيين ، في كافة القبائل الأخري ليعم الأمن والسلام بين ربوع البوادي إذن لا مندوحةعن القضاء العرفي ، ولذا ظلت له الهيبة ، والأخذ بأحكامه الى يومنا هذا فى سيناء >

حاتم عبدالهادى السيد
المؤرخ المصرى
مؤلف كتاب المساعيد والقضاء العرفى فى سيناء
 
ملتقى قبائل المساعيد والأحيوات :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق